فصل: أصناف العدل من الخلائق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.مقدمة:

اعلم أن الله تعالى لما خلق الأرض ودحاها وأخرج منها ماءها ومرعاها، وبث فيها من كل دابة وقدر أقواتها أحوج بعض الناس إلى بعض في ترتيب معايشهم ومآكلهم وتحصيل ملابسهم ومساكنهم، لأنهم ليسوا كسائر الحيوانات التي تحصل ما تحتاج إليه بغير صنعة. فإن الله تعالى خلق الإنسان ضعيفا لا يستقل وحده بأمر معاشه لاحتياجه إلى غذاء ومسكن ولباس وسلاح، فجعلهم الله تعالى يتعاضدون يتعاونون في تحصيلها وترتيبها بان يزرع هذا لذاك ويخبز ذاك لهذا وعلى هذا القياس تتم سائر أمورهم ومصالحهم، وركز في نفوسهم الظلم والعدل. ثم مست الحاجة بينهم ميزانا للعدالة وقانونا لسياسة توزن به حركاتهم وسكناتهم وترجع إليه طاعاتهم ومعاملاتهم، فانزل الله كتابه بالحق وميزانه بالعدل كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ}.
قال علماء التفسير المراد بالكتاب والميزان العلم والعدل وكانت مباشرة هذا الأمر من الله بنفسه من غير واسطة وسبب على خلاف ترتيب المملكة وقانون الحكمة، فاستخلف فيها من الآدميين خلائف ووضع في قلوبهم العلم والعدل ليحكموا بهما بين الناس حتى يصدر تدبيرهم عن دين مشروع وتجتمع كلمتهم على رأي متبوع، ولو تنازعوا في وضع الشريعة لفسد نظامهم واختل معاشهم. فمعنى الخلافة هو أن ينوب أحد مناب آخر في التصرف واقفا على حدود أوامره ونواهيه، وأما معنى العدالة فهي خلق في النفس أو صفة في الذات تقتضي المساواة لأنها أكمل الفضائل لشمول أثرها وعموم منفعتها كل شيء، وإنما يسمى الإنسان عادلا لما وهبه الله قسطا من عدله وجعله سببا وواسطة لإيصال فيض فضله واستخلفه في أرضه بهذه الصفة حتى يحكم بين الناس بالحق والعدل، كما قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}.
وخلائف الله هم القائمون بالقسط والعدالة في طريق الاستقامة ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، والعدالة تابعة للعلم بأوساط الأمور المعبر عنها في الشريعة بالصراط المستقيم. وقوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، إشارة إلى أن العدالة الحقيقية ليست ألا لله تعالى فهو العادل الحقيقي الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ووضع كل شيء على مقتضى علمه الكامل وعدله الشامل. وقوله صلى الله عليه وسلم: «بالعدل قامت السموات والأرض»، إشارة إلى عدل الله تعالى الذي جعل لكل شيء قدراً لو فرض فارض زائداً عليه أو ناقصاً عنه لم ينتظم الوجود على هذا النظام بهذا التمام والكمال.

.أصناف العدل من الخلائق:

أصناف العدل من الخلائق خمسة، ورفع الله بعضهم فوق بعض درجات كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}.

.الأول: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:

فهم أدلاء الأمة وعمد الدين ومعادن حكم الكتاب وأمناء الله في خلقه، هم السراج المنيرة على سبيل الهدى وحملة الأمانة عن الله إلى خلقه، بالهداية بعثهم الله رسلا إلى قومهم وأنزل معهم الكتاب والميزان ولا يتعدون حدود ما أنزل الله إليهم من الأوامر والزواجر إرشاداً وهداية لهم حتى يقوم الناس بالقسط والحق، ويخرجونهم من ظلمات الكفر والطغيان إلى نور اليقظة والأيمان، وهم سبب نجاتهم من دركات جهنم إلى درجات الجنان. وميزان عدالة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الدين المشروع الذي وصاهم الله بإقامته في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا}. فكل أمر من أمور الخلائق دنيا وآخرة عاجلاً وآجلاً قولاً وفعلاً حركة وسكوناً جار على نهج العدالة ما دام موزوناً بهذا الميزان، ومنحرف عنها بقدر انحرافه عنه، ولا تصح الإقامة بالعدالة ألا بالعلم وهو أتباع أحكام الكتاب والسنة.

.الثاني: العلماء الذين هم ورثة الأنبياء:

فهم فهموا مقامات القدوة من الأنبياء وأن لم يعطوا درجاتهم واقتدوا بهداهم واقتفوا آثارهم إذ هم أحباب الله وصفوته من خلقه ومشرق نور حكمته، فصدقوا بما أتوا به وساروا على سبيلهم وأيدوا دعوتهم ونشروا حكمتهم كشفاً وفهماً وذوقاً وتحقيقاً، أيماناً وعلماً بكمال المتابعة لهم ظاهراً وباطناً. فلا يزالون مواظبين على تمهيد قواعد العدل وإظهار الحق برفع منار الشرع وإقامة أعلام الهدى والإسلام وأحكام مباني التقوى برعاية الأحوط في الفتوى تزهداً للرخص لأنهم أمناء لله في العالم وخلاصة بني آدم مخلصون في مقام العبودية مجتهدون في أتباع أحكام الشريعة، عن باب الحبيب لا يبرحون ومن خشية ربهم مشفقون، مقبلون على الله تعالى بطهارة الأسرار وطائرون إليه بأجنحة العلم والأنوار، هم أبطال ميادين العظمة وبلابل بساتين العلم والمكالمة. أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، وتلذذوا بنعيم المشاهدة، ولهم عند ربهم ما يشتهون. وما ظهر في هذا الزمان من الاختلال في حال البعض من حب الجاه والمال والرياسة والمنصب والحسد والحقد لا يقدح في حال الجميع لأنه لا يخلو الزمان من محقيهم وأن كثر المبطلون، ولكنهم أخفياء مستورون تحت قباب الخمول لا تكشف عن حالهم يد الغيرة الإلهية والحكمة الأزلية. وهم آحاد الأكوان وأفراد الزمان وخلفاء الرحمن، وهم مصابيح الغيوب مفاتيح أقفال القلوب، وهم خلاصة خاصة الله من خلقه، وما برحوا أبداً في مقعد صدقه، بهم يهتدي كل حيران ويرتوي كل ظمآن، وذلك أن مطلع شمس مشارق أنوارهم مقتبس من مشكاة النبوة المصطفوية، ومعدن شجرة أسرارهم مؤيد بالكتاب والسنة لا أحصي ثناء عليهم، أفض اللهم علينا مما لديهم.

.الثالث: الملوك وولاة الأمور:

يراعون العدل والأنصاف بين الناس والرعايا توصلا إلى نظام المملكة وتوسلاً إلى قوام السلطنة لسلامة الناس في أموالهم وأبدانهم وعمارة بلدانهم، ولولا قهرهم وسطوتهم لتسلط القوي على الضعيف والدنيء على الشريف. فرأس المملكة وأركانها وثبات أحوال الأمة وبنيانها العدل والأنصاف، سواء كانت الدولة إسلامية أو غير إسلامية فهما أس كل مملكة وبنيان كل سعادة ومكرمة. فإن الله تعالى أمر بالعدل، ولم تكتف به حتى أضاف إليه الإحسان، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}، لأن بالعدل ثبات الأشياء ودوامها وبالجور والظلم خرابها وزوالها، فإن الطباع البشرية مجبولة على حب الانتصاف من الخصوم وعدم الأنصاف لهم والظلم والجور كامن في النفوس لا يظهر ألا بالقدرة كما قيل:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ** ذا عفة فلعلة لا يظلم

فلولا قانون السياسة وميزان العدالة لم يقدر مصل على صلاته ولا عالم على نشر علمه ولا تاجر على سفره، فإن قيل: فما حد الملك العادل؟ قلنا: هو ما قال العلماء بالله من عدل بين العباد وتحذر عن الجور والفساد، حسبما ذكره رضى الصوفي في كتابه المسمى بقلادة الأرواح وسعادة الأفراح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة قيام ليلها وصيام نهارها». وفي حديث آخر: «والذي نفس محمد بيده إنه ليرفع للملك العادل إلى السماء مثل عمل الرعية وكل صلاة يصليها تعدل سبعين ألف صلاة»، وكأن الملك العادل قد عبد الله بعبادة كل عابد وقام له بشكر كل شاكر، فمن لم يعرف قدر هذه النعمة الكبرى والسعادة العظمى واشتغل بظلمه وهواه يخاف عليه بان يجعله الله من جملة أعدائه، وتعرض إلى أشد العذاب، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أبغض الناس إلى الله تعالى وأشدهم عذابا يوم القيامة إمام جائر». فمن عدل في حكمه وكف عن ظلمه نصره الحق وأطاعه الخلق وصفت له النعمى وأقبلت عليه الدنيا، فتهنأ بالعيش واستغنى عن الجيش، وملك القلوب وأمن الحروب، وصارت طاعته فرضا وظلت رعيته جنداً لأن الله تعالى ما خلق شيئا أحلى مذاقا من العدل ولا أروح إلى القلوب من الأنصاف ولا أمر من الجور ولا أشنع من الظلم. فالواجب على الملك وعلى ولاة الأمور أن لا يقطع في باب العدل ألا بالكتاب والسنة، لأنه يتصرف في ملك الله وعباد الله بشريعة نبيه ورسوله نيابة عن تلك الحضرة ومستخلفا عن ذلك الجناب المقدس، ولا يأمن من سطوات ربه وقهره فيما يخالف أمره فينبغي أن يحترز عن الجور والمخالفة والظلم والجهل، فانه أحوج الناس إلى معرفة العلم وأتباع الكتاب والسنة وحفظ قانون الشرع والعدالة، فإنه منتصب لمصالح العباد وإصلاح البلاد وملتزم بفصل خصوماتهم وقطع النزاع بينهم، وهو حامي الشريعة بالإسلام، فلا بد من معرفة أحكامها والعلم بحلالها وحرامها ليتوصل بذلك إلى إبراء ذمته وضبط مملكته وحفظ رعيته، فيجتمع له مصلحة دينه ودنياه وتمتلئ القلوب بمحبته والدعاء له، فيكون ذلك أقوم لعمود ملكه وأدوم لبقائه وأبلغ الأشياء في حفظ المملكة العدل والأنصاف على الرعية.
وقيل لحكيم: أيهما أفضل العدل أم الشجاعة؟ فقال: من عدل استغنى عن الشجاعة لأن العدل أقوى جيش وأهنأ عيش.
وقال الفضيل بن عياض: النظر إلى وجه الإمام العادل عبادة، وأن المقسطين عند الله على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن. قال: سفيان الثوري: صنفان إذا صلحا صلحت الأمة وإذا فسدا فسدت الأمة: الملوك والعلماء. والملك العادل هو الذي يقضي بكتاب الله عز وجل ويشفق على الرعية شفقة الرجل على أهله.
روى ابن يسار عن أبيه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيما وال ولي من أمر أمتي شيئا فلم ينصح لهم ويجتهد كنصيحته وجهده لنفسه كبه الله على وجهه يوم القيامة في النار».